ليس بوسعك أن تكتب مقالًا أو كتابًا، إلا بعد أن ترتوي من نمير العلم، وتنهل من ينابيع المعرفة. فمثلك يشبه تمامًا حال الأرض الهامدة التي قيل في شأنها: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيج}[الحج:5]. ففعل الكتابة والقدرة على ممارستها تتأتى لمن يبذل من وقته الليالي والأيام متتلمذًا على القراءة في أمهات الكتب التي من شأنها أن تثري حصيلتيه: اللغوية والمعرفية. وحول هذا المعنى أستحضر بيتين جميلين من شعر أحمد الصافي النجفي يقول فيهما: لقد كان بي في الأمس نهم قراءة كأني ظمآن إلى المنهل الجاري فأصبحت خصمًا للكتاب كأنني رويت وهذا يوم إعطاء أثماري فالكتابة هي الوليد الشرعي لممارسة الإنسان لعادة القراءة الجادة المقرونة بالتجريب الكتابي، فلا يكفي أن تقرأ لتتمكن من الكتابة بل ينبغي عليك أن تمسك بقلمك وتمرنه على القفز بين السطور؛ لتتولد من ملامسته للورقة أجمل المعاني والكلمات. لذلك لا تتعجب حين تجلس مع مثقف -بل خطيب مفوه- واسع الإطلاع وتجده مع ذلك يشكو من عدم قدرته على التعبير عن أفكاره بشكل كتابي. وقد تكون الصورة مغايرة فقد يفشل الكاتب المتألق حين يُطلب منه أن يلقي كلمة شفهية للجمهور. فأمر الكتابة والخطابة هما بحاجة لتدريب ومران حتى تصبحان ملكة عند الإنسان، فالإنسان كاتب بالقوة ويمكن أن يكون كاتبًا بالفعل حين يسعى جادًا لتحقيق هذه الأمنية التي يتمناها الكثير من الناس. وهل توجد أمنية أفضل من أن يُبقي الإنسان لنفسه ورقة علمٍ ، صدقة جارية، ينتفع بها الناس من بعده؟ إذن، أنت وأنا وكل من يقرأ هذه السطور بمقدوره أن يُسجِّل اسمه في قائمة الكُتَّاب بشرط أن يقرأ بعمق، ليتمكن فيما بعد من الكتابة بسهولة ويسر. ومن البداهة أن الكاتب المبدع يتجدّد باستمرار؛ لأنه يبحث عن معارف جديدة، أما من يغرف من نفس البئىر؛ فسينبض إبداعه! وهذا المعنى هو الذي جعل أخي العزيز الأستاذ محمد المبارك يعلنها صريحة ويقولها بثقة (وأينع القلم)، فقد أينع قلمه بعد سنوات من القراءة الجادة التي جعلته يركض برجله في مختلف الدول وهو يلاحق معارض الكتب، وقد صادفته -شخصيًا- في أكثر من معرض من المعارض الدولية التي تقام للكتاب، كم التقيت به في محافل فكرية وثقافية مختلفة، ومن هذا شأنه، فلا غرابة أن تحظى بقطف ثمار فكره في هذا الكتاب كما هو الحال في بقية كتبه. ولعلّ من مواطن الجَمال في هذا الكتاب أنه يحوي مقالات متنوعة تعالج قضايا اجتماعية وثقافية وتربوية ودينية...إلخ، مما جعل منه واحة غنّاء وارفة الظلال. ومن المناسب أن أنتهز هذه الفرصة لألفت نظر القرّاء بأن يسعوا ويجربوا مسك القلم، الذي بمقدورهم أن يعبروا بواسطته عن ذواتهم وأفكارهم، مع سعيهم الحثيث للعمل على معالجة مواطن الضعف في مجتمعنا، إضافة لإسهامهم في نهضته بجميل ما يطرحونه من أفكار. ومن شأن الكلمة الطيبة أنها تحيي الأرواح الميتة وتعلي من شأن سامعها، لذا علينا أن نجهد للبوح بها، فرب كلمة أخرجت قارئها من الظلمات إلى النور. فالكتابة الجميلة هي بحاجة إلى فكرة جميلة، ثم تنساب على الورق كماء الجداول حين يسقي الحقول. وهنا أنقش مقولة سابقة قلت فيها: "لا تنتظر أن تكون كاتبًا مرموقًا لتكتب، بل اكتب لتكون كاتبًا مرموقًا". ويطيب لي أن أختم هذه السطور بإشارة مهمة ذكرها أخي العزيز الأستاذ محمد المبارك في كتابه هذا، وهي نصيحة مهمة لكل كاتب يريد أن يدخل نادي الكُتَّاب، فالكاتب الجاد عليه أن يكتب ما هو مقتنع به، وينبغي أن لا ينتظر من جهة من الجهات أن تملي عليه ما يكتب! قرأت هذا المعنى في سطور الكاتب المبارك ورأيته هنا يكتب وفق قناعته هذه، ويجهر بما يؤمن به، وآمل له المزيد من العطاء الكتابي الجميل. *تقديمي لكتاب "وأينع القلم"، للأستاذ محمد المبارك، سيصدر قريبًا.